أهلاً بكم في ليسبوس

[????? ?????? ????? ????? ??????. ?????? ?? ??????] [????? ?????? ????? ????? ??????. ?????? ?? ??????]

أهلاً بكم في ليسبوس

By : Omar Robert Hamilton

 

أرى الشاب من الليلة الماضية، يجلس لوحده، يدخّن، ويبحلق في البحر الأسود الممتد أمامه. هاتفه مُطْفأ في يده. بجانبه أكثر من عشرة شباب ينامون تحت بطانيّات رمادية. وعلاماتها الكبيرة التي تشير إلى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة ترفرف في الريح.

«هل أنت بخير؟»

«نعم، الحمد لله. وأنت؟»

«جيّد. هل يمكن أن أساعدك؟»

«تساعدني؟»

لم أكن أرتدي السترة المميّزة. هو يظن أنّني هربت معه وقد نزلت من القارب للتو.

شرحت له: «أنا متطوّع هنا في ليسبوس. هل أنت بحاجة إلى شيء؟»

«حقاً؟» وقف وابتسم وهو يصافحني. «متطوّع؟»

«نعم»

«ولكن كيف استطعت القدوم إلى هنا؟ لهجتك مصريّة.»

«لديّ جواز سفر بريطاني.»

«االله يخليك. عندك كهرباء؟» رفع هاتفه الساكت.

«كلا» أشير إلى الظلمة وراءنا وإلى الخيمة البلاستيكية البيضاء الكبيرة وحاويات الشحن والخيم الخضراء الأصغر حجماً والتي تشكّل مخيم اللاجئين الآيل للسقوط هذا. «أنا آسف. لا كهرباء. نحصل على الضوء من النادي الليلي.» لاح نادي أوكسي فوقنا؛ بناية ضخمة مضاءة بالأزرق. يكبر المخيم كل يوم، هنا في موقف سيارات النادي، على سفح هذا الجبل اليوناني البارد.

أمد هاتفي « هل تريد أن تهاتف أحداً؟»

«آه» يشرق وجهه. أضع هاتفي في يده.

«شكراً أخي» يأخذ الهاتف ويفتح «فيسبوك مسنجر.»

أتركه لشأنه.

***

صباح اليوم التالي. الفجر. إنه يومي العاشر على جزيرة ليسبوس. أقود السيارة إلى المخيّم، سيجارة في يد والهاتف في الأخرى. لم أغيّر ملابسي. أفتح الهاتف فيذهب إلى الفيسبوك مباشرة. لم أفهم في البداية. هناك رسالة بالعربية إلى امرأة في السويد:

«حبيبتي

عبرت البحر

أنا بالقرب من أثينا

هاتفي ميّت»

 ثم فهمت. تذكّرت الشاب من الليلة الماضية. لقد رحل الآن ولن أراه أبداً. أبتلعُ عاطفة متعبة جاشت. وأترك الهاتف في المقعد الخالي بجانبي. تتجمّع الغيوم بسرعة حول قمة الجبل. ستمطر اليوم. وعندما تمطر يموت الناس.

 بإمكان المرء أن يرى تركيا من جزيرة ليسبوس. ليس البحر واسعاً وليس هائجاً. لكن القوارب ضعيفة ومكتظة بأكبر عدد من البشر الذين يمكن للمهربين أن يملأوها به.

 بإمكان القارب المطاطي المجهّز بمحرك أن يعبر المضيق بساعة.

 في ليلة ماطرة وبمحرك عاطل تمتليء القوارب بالماء بأسرع ممّا يمكن ليديك أن تفرغها. في ليلة ماطرة يكون ارتفاع الموج عشرة أمتار. وتظل تسقط مرة وأخرى وتأخذك إلى أعماق الماء. في ليلة ماطرة ستلقي بكل ما تملكه إلى البحر الأسود البارد لكي تطفو أمتار قليلة أقرب إلى اليونان. في ليلة ماطرة ستقول لمهرّب في تركيا «كلّا». ستقول لهم إنك ستعبر غداً وستمشي بعيداً عن القارب وتعود إلى الشاحنة التي أبقوك فيها لثلاثة أيام. ستقول لهم «كلاّ» وسيخرجون مسدساتهم ويدفعوك إلى البحر.

 فاطمة حامل في الشهر السابع. ضاع قارب فاطمة لثلاث ساعات في عاصفة في البحر. كانت متأكدة بأنهم سيموتون جميعاً. هي على قيد الحياة لكن الطفل لم يتحرك منذ ساعات.

 «ربما» أقول لها «هو خائف أو مصدوم.»

 الساعة الثالثة صباحاً ولا يوجد طبيب في المخيّم.

 «ربما» تتمتم هي وهي تهدهد الطفل «ربما».

 بعد أربع ساعات ستكون على متن الحافلة إلى المخيّم الحكومي. يفترض أن يكون هناك أطباء فيه. لا أعرف. ولا أعرف إن كان الطفل قد عاش.

 محمود في الخامسة والسبعين. دمّرت براميل الأسد بيته. وحقيبته الآن في قعر البحر. «بكم البطاقة إلى أثينا؟» يسألني.

 «٦٠ يورو» أقول له.

«لديّ ١٠٠ فقط»

 يجلس لوحده. لا أسأله إن كانت عائلته على قيد الحياة. 

لا يتحدّث لدقيقة. ثم ينظر إلىّ «إذا قلت لهم إنني لا أملك سوى ١٠٠ فهل سيسمحون لي أن أركب بـ٣٠

مثلاً؟»

«لا أظن.»

« أتحسّس جيبي الخلفي. هناك ورقة واحدة. ٥ ربما. أستحيي أن أعطيه إياها.
لا أعرف ما الذي سيحدث له. لا أعرف ما الذي سيحدث لأي شخص. لا هنا في أثينا ولا في مقدونيا أو شتاءات الشمال في هذه القارة الصخريّة التي تمزّق العالم مراراً وتكراراً.

«أهلا بكم في ليسبوس» أقولها ألف مرة في اليوم. تذكّر أن تبتسم. كن دافئاً.

«أهلا بكم في ليسبوس. أنتم في نقطة انتقالية في الريف. كلنا متطوّعون هنا نعمل على مساعدتكم للوصول إلى المخيّم الحكومي جنوب الجزيرة. هذه تذكرة حافلة ستغادر صباح الغد. ستحصل على أوراقك من الحكومة هناك. وبعد الحصول على الأوراق يمكنك أن تواصل الطريق إلى أثينا. هذه تذكرة للطعام. هناك ملابس يابسة في الخيمة التي خلفنا. هناك بطانيّات في الخيمة الكبيرة. أهلاً. مرحباً. ابتسامة. ابتسامة. «مرحباً بك في ليسبوس هل هذه ابنتك؟ أهلاً! هل تريد قطعة بسكويت؟ تفضّل يا سيدي. سيدي، أنت في نقطة انتقالية في الريف.»

 في يوم صاف يأتي إلى المخيّم ألفان، ثلاثة، أو أربعة آلاف.

 قارب مايكل أخطأ الساحل وحطّ على الصخور. قفز خارجاً ليقوده بعيداً عن الخطر. دفعت الأمواج القارب فوقه وأغرقته في الماء وصفقت ظهره بالصخور. لا يستطيع أن يحرّك رجليه.

 «هل لديك كرسي متحرّك» أسأل. «نحن بحاجة إلى كرسي متحرّك. سنوصلك إلى المستشفى سيدي. الأمر مؤقت إن شاء الله. ستتحسن غداً بإذن الله. من عنده سيارة؟ سنجد من يوصلك إلى المستشفى.»

 في يوم صاف يمكن أن ترى البقع البرتقالية في الأفق. خمسون سترة نجاة لامعة، محشورة الواحدة جنب الأخرى تتجه نحوك. في يوم صاف سيكون هناك خط من القوارب، واحد وراء الآخر. سعر سترة النجاة ألف دولار وكل قارب يحمل خمسين سترة وهناك خمسون قارباً في اليوم. المهربون يحصلون، بأقل تقدير، على ربع مليون دولار في اليوم.

 هناك مهرّب يرسل قاربه في الواحدة صباحاً، تصل العوائل إلى المخيّم مبللة في أشد الساعات برداً قبيّل الفجر. فاطمة كانت على واحد من هذه القوارب.

 « لو كنت أعرف. لو كانت لدي أي فكرة، أقسم بالله، لما كنت فعلتها. لو كنت أعرف أن البحر سيكون هكذا. . . »

 محمد يأخذ ابنة أخيه ذات السنين الأربع إلى هامبورغ. داعش قتلت أباها. أخذوه من بيته في الليل. محمد في الثامنة عشرة.

 هناك حافلات للسوريين وأخرى لغير السوريين. مخيّم لهذه المجموعة وآخر لتلك. الحكومة اليونانية تدير المخيّمات. هناك فوضى وازدحام وشرطة مكافحة الشغب تملأ المخيّمات. في إحدي الليالي ينشب شجار وهناك غاز مسيل للدموع ورعب. تصلنا الأخبار هنا في الشمال. مات شخصان. وفقدت امرأة طفلها.

 ما الذي نفعله هنا؟ إلى أين نبعث هؤلاء الناس؟

 طفل يبكي. في النور الآفل لمصباح السولار أشاهد عائلة من أربعة. الأم تهدهد الطفل، أسنانها تصطك، ملابسها المبللة تلتصق بكتفيها. أناول الأب أربع تذاكر للحافلة التي تأخذهم إلى المخيّم الحكومي. لا خيار. أناول أربعاً أخرى. أربعمئة. أربع آلاف.

 «وما الذي سيحدث بعد هذا؟» عندما نحصل على أوراقنا؟ أين سنذهب؟»

 « تشترون تذكرة إلى أثينا. ومن أثينا تأخذون حافلة إلى مقدونيا. تقطعونها إلى صربيا، ثم، كرواتيا، والنمسا صعوداً إلى ألمانيا» تعلمت أن أقول هذا.

 «ألمانيا لا تزال مفتوحة؟ لن يعيدوننا من حيث جئنا؟»

 « يقولون إن ألمانيا مفتوحة» لا أحد يعرف إلى متى.

 في الظلمة، بين نفسيْ سيجارة، يضع صبي من العراق يده على ذراعي: «هل يمكن أن أسألك سؤالاً؟»

«نعم»

«هل من الأفضل لي أن أقول إنني من سوريا؟»

 ***

 تمت الدعوة إلى اجتماع للبلديّة في موليڤوس. وهي القرية التي تراقب القوارب تصل على شواطئها يوماً بعد يوم. هناك العديد المنظمات تعمل في الجزء الشمالي من الجزيرة ولا بد من تحسين التنسيق. المفوضيّة العليا للاجئين والصليب الأحمر وهيئة الإنقاذ الدولية والإغاثة الإسلامية ومؤسسة لاجئي القوارب و «تيم هيومانتي» و «بروآكتيڤا لايفغاردز» و «ستارفش ڤولنتيرز» وهي المنظمة التي أعمل معها وهي واحدة من المجموعات التي هبّت مستجيبة. هناك أيّام يسير فيها العمل بكفاءة. وأخرى لا. لا يوجد نظام ولا شخص مسؤول. لا يوجد جهاز معلومات مركزي. بعض المجموعات تعمل بشق الأنفس. بعضها الآخر يعمل كما لو أنه يوم عمل عادي. 

اشتريت تذكرة إلى ليسبوس من القاهرة. استأجرت سيارة من المطار وسقت شمالاً باتجاه تركيا. بعد نصف ساعة من وصولي كنت في البحر إلى وسط قامتي وهناك رجل يناولني طفلاً من قارب ملئ بالماء. خضنا إلى اليابسة ننوء تحت ثقل الحقائب. أعدت طفله إليه ووقف ساكناً للحظة. مصدوماً. ضغطت على ذراعه ثم وجدت رأسه على كتفي وبكينا سوية.

 «وصلت» أقول بالعربية. لا يفهم.

 بعد ساعة وجدت أوكسي وبدأت أعمل في شباك التذاكر.

 «مرحباً، أهلاً في ليسبوس. هل تحتاج إلى ملابس جافّة؟»

 هناك عشرات المتطوعين لديهم نفس الحكاية.

ينظّم المتطوعون عملهم على «الواتساپ»:

 

 هل هناك من يمكنه أن يأخذ نوبة الحافلة للسابعة صباحاً عنّي؟

 ٢٠٠٠ في أوكسي الآن. هناك شحة في السندويشات.

 نحتاج إلى طبيب في أوكسي.

 حرس السواحل يخرجون الآن. استعدوا لقارب يدخل الميناء.

 يمكنني أن آخذ نوبة السابعة صباحاً.

 خمسة قوارب في الماء الآن.

 بحاجة إلى المزيد من البطّانيات في أوكسي.

 هل رأى أحد الطفل؟

مئات الرسائل تتطاير كل يوم بين عشرات المتطوّعين.

 مسؤول البلدة يتنحنح. يقول للحضور في الغرفة إن الاقتصاد تضرّر هذا الصيف. إنه اقتصاد سياحة. وعلينا أن نراعي المحليّين. يذكّرنا بأن ننزل الشبابيك عندما نمر بجانبهم بسياراتنا ونقول «كاليميرا» صباح الخير. أبطئوا في السياقة. يقول لنا، إنهم لا يفهمون ما يحدث في جزيرتهم. لا يفهمون ما يحدث في سوريا. الشئ الوحيد الذي يفهمونه هو أن هذا الصيف لم يكن جيداً لهم.

 أرفع يدي: «بدلاً من النظر إلى الموضوع كمشكلة لماذا لا نقول إنها فرصة؟ لديكم اقتصاد يعتمد على السياحة الصيفيّة وهو يعاني الآن. لكن لديكم الآن آلاف الناس الذين يمرون عبر جزيرتكم كل يوم. الكثيرون منهم بلا نقود. الكثيرون باعوا كل شيء. الكثيرون يفضّلون النوم في فندق على النوم في مخيّم للاجئين. لكن على أن أقول لهم إن القيام بأي شيء هنا بدون أوراق يخالف القانون. اعملوا استثناء لحالة الطوارئ هذه. ادمجوا هؤلاء الناس في اقتصادكم وستكون فنادقكم مليئة حتى الشتاء ولن يكون لديكم مشكلة.»

 لكن الجواب بسيط: هذا يخالف القانون. المحليّون ليسوا مستعدين لهذا.

« ليسوا مستعدين لأن ينزل العرب في فنادقهم؟»

«كلا»

 لذلك أقول للناس ليلة بعد أخرى «أرجوك، خذ بطانية. ستشعر بالدفء هنا. لا يوجد مكان داخل الخيمة؟ خذ بطانية أخرى. أنا آسف، إنه وضع خرائى وإنها عنصرية، لكن ركوب سيارة الأجرة غير قانوني. النزول في فندق غير قانوني. شراء تذكرة طائرة غير قانوني. أنا آسف.»

 الطريق الجبلي مرصوف على مد البصر بنهر رمادي من البطانيات. بإمكان الخيم أن تستوعب خمسمئة. في معظم الليالي هناك ألف شخص، على الأقل، في المخيّم.

 حين يأتي المطر كل شيء يتغيّر. والمطر في ليسبوس ينهمر بسرعة وبقوّة. فيصبح المخيّم زلقاً بالطين في ثوان. نوزّع ستراً من البلاستيك الرقيق ويربض الناس تحت القماش المشمّع. سيشتد البرد. الشتاء سيكون أبرد والشمال أيضاً. «أرجوك» خذ بطانيتك معك.» ستكون هناك ليال طويلة في الظلام البارد على حدود صربيا. مسيرات عبر الريف السلوفيني. أيام في معسكرات الاحتجاز في ألمانيا. سيشتد البرد.

 سيبطئ الأمر في الشتاء. لا بد أن يبطئ. لازمة تُسمَع عشرات المرات في اليوم. سيبطئ حين يحصل أردوغان على صفقته. الوصول إلى أوربا بدون تأشيرة دخول للأتراك زائداً بلايين من اليوروات وسيبطئ الأمر.

 « اللعنة على الأتراك وعلى أردوغان وحكومته» أسمع حكايات مثل هذه كل يوم. «حاولت لسنة أن أعيش في تركيا. لكنك تعمل ضعف ما يعمله التركي وتأخذ نصف الراتب. يقف صاحب العمل على رأسك وبإشارة من أصبعه يقول لك أن تحمل هذا وأن تنظف الوسخ. ويقف ليراقبك ويسخر منك ولا يدفع ما يكفي لتطعم نفسك. انس أطفالك. كلا. حاولت. ليس لديك حقوق. الحياة مستحيلة. هم يتأكدون من أن تكون ذلك. كل ما أردته هو أن أعمل. لو كان بإمكاني أن أعمل في تركيا لعملت. لكن لا يمكن لك أن تعمل.»

 في اليوم الذي يلتقي فيه أردوغان بكبار مسؤولي الإتحاد الأوربي ليست هناك قوارب.

 أوروبا على مفترق طرق والطريقة التي ستتعامل بها مع هذه الأزمة ستساعد في تمييز القارة في القرن القادم. لطالما شكّلت الهجرة الجمعية العالم. عبر التاريخ تشكلت المدن والحضارات العظيمة من الخليط المتنوّع من البشر.

 يكبر مخيّم أوكسي يوماً بعد يوم. تنصب خيمة جديدة لامرأة وطفل. تقف حافلة طبيّة. تولد خيمة ليلعب فيها الأطفال. لكن هذا لا يكفي. الأمطار قادمة والشتاء قادم والناس لن يتوقفوا. لا يمكنهم أن يتوقّفوا. ليس لديهم مكان يذهبون إليه. ليس بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً سوى الهرب من البراميل المتفجّرة والهجمات الكيمياوية والإعدام في الأماكن العامة.

 بإمكان أوروبا أن تتشبّث بأفكارها القديمة عن ذاتها، أن تظل بمزاج التفوّق الإمبريالي بينما شعوبها تشيخ واقتصادها يتدهور. أو بإمكانها أن تخلق مستقبلاً جديداً لها. مستقبل يبدأ في ليسبوس وكوس ولامبيدوزا. مستقبل لا يقوم على النفاق الإثني ضيق الأفق ولكن على العمل والتقبّل: عالم جديد تتحرّك فيه الأشياء التي هي أهم من رأس المال، تتحرك بين الخطوط على الخارطة دون عائق.

 موسى يهرب من داعش. كان يعيش في نوتنغهام. كان لديه تأشيرة، لكنه عاد إلى أفغانستان ليتزوج ويكون مع عائلته. كان هذا قبل ثماني سنوات. كان يفترض أن تتحسن الأمور.

 « داعش تسيطر على أربع مقاطعات في الشمال» يقول « ولا أحد يتحدث عن الأمر.»

 يتحدث الإنكليزية بطلاقة وبلهجة ميدلانديّة قحّة. أفترض، مخطئاً، أنه يعمل في المخيّم. نمضي الليلة نعمل معاً. أنا بالعربية وهو بالدارية.

 «عالقون نحن في وسط حرب بين داعش وبين الطالبان. داعش تأتي وتأخذك من بيتك. إذا كان هناك نساء في الداخل يجب أن ترفع راية ليأتوا ويأخذوهن. هكذا تبيّن أنك لا تخفي شيئاً. لا يمكنك أن تربّي عائلة، أو تعمل، أو تعيش. ماذا كنت أنت ستفعل يا صاحبي؟” يسألني. أمضى سنتين يقدم طلبات التأشيرة. ورفضت كلّها. أين هو الآن؟

 ركب حافلة قبل شهر ولحقت به:

 « ما اسمك على الفيسبوك؟»

 « موسي نوتنغهام»

 « سأضيفك الآن.»

 تصافحنا.

«سأراك في المملكة المتحدة» قلت.

 نزلت من الحافلة وشعرت بيد على صدري ولكنة فرنسية تأمرني: « ابق على الحافلة. يجب أن تبقى على الحافلة.»

 أزحت يده وأجبت بالانكليزية: «أنا أعمل هنا.»

 « آه، آسف»

 تحركت الحافلة ولوّحت مودّعاً.

 أربعون يوماً مرّت. هل هو في كاليه؟ بانتظار ردود الفعل السلبيّة إزاء آخر مشاهد العنف الداعشية؟ لا أعرف. فما زال طلب الصداقة الذي أرسلته ينتظر بلا موافقة.

 

‪[ترجمة سنان أنطون. نشر الأصل بالإنكليزية في مجلة غورنيكا]‬

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Hollow Words: Egypt, Italy, and Justice for Giulio

      Hollow Words: Egypt, Italy, and Justice for Giulio
      Multiple fractures, cigarette burns, abrasions, fingernails forcibly removed and every finger broken, dozens of lacerations all over the body, on the soles of feet and ears all ending in a broken nec
    • Another Promise To Be Fulfilled

      Another Promise To Be Fulfilled
      The light is different in Zeinhom. The narrow street, arching trees, and gentle slope of one of Cairo’s only hills combine to soften the bright, direct light that casts the city in her familiar monoc
    • Devastation Is Upon Us

      Devastation Is Upon Us
      They say that before you drown a calm fills you. A subtle euphoria loosens your last grip on life.Today, two futures lie ahead of us: one known and one unknown.Today, twenty-seven people sit in jail.

قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي إيوْجِنيو مونتالِه

 

 

 

 

 

 

 

قصائد مُختارة للشَّاعر الإيطالي إيوْجِنيو مونتالِه Eugenio Montale  (1896-1981)

اختارها وترجمها وقدَّم لها: أمارجي


تقديم


لا غُلواءَ إنْ قلنا: القصيدةُ، هنا، تنكيلٌ بالزَّمن، نهشٌ بالمغاليق-، 

     (نصٌّ مخلبٌ) 

     (نصٌّ نصْلٌ) 

ههنا، الزَّمنُ ثالثٌ، موَّارٌ بِشكِّه ولا يستوثِقُ إلا الذي فيه؛ زمنٌ مختمِرٌ في صَدَفةِ الكمَدِ الوجوديِّ، يتفلَّعُ ويعلو في خمائره مثل شجرةٍ تمتاحُ ماءَ نفسِها، ثمَّ تحترقُ وتهوي بغتةً في رمادِ نفسِها؛ زمنٌ شغلُه الفتلُ والتَّحويلُ والتَّمزيق، تهييجُ "هلاساتٍ تَورِياتيَّة" تحت الجلالِ الهُدهُديِّ للنِّسيان، حين اللازمنيُّ تناصٌّ مع الزَّمنيِّ، تحريشٌ به. الهدهدُ نفسُه رمزٌ لصنيعِ مونتالِه الشِّعريِّ، إنَّه بهلوانُ الزَّمنيَّة المونتاليَّة الذي يجمِّدُ ويحرِّكُ في آنٍ معاً، مُقنبَرَاً بعَوْفِه الكونيِّ. ولا يُشْكِلَنْ علينا هذا اللَّيَاحُ الزَّمنيُّ المبهِر، هذا العماءُ الأصلُ المستعادُ عبرَ انتفالِ اللغةِ مِن سَقطةِ المواقيت، وانتفالِ المواقيتِ مِن سَقطةِ اللغة؛ لا يَنطَلِيَنْ علينا انتحالُ العدَمِ أسرَّةَ اليقين: الزَّمنُ المشاكِلُ للَّازمنِ والمشكِلُ به هو، ببساطةٍ، الزَّمنُ المنكِّلُ، هو المعتصِرُ بهاءاتِ الأمسِ في مِهرازِ الرَّاهن. لا لبسَ، إذَّاكَ، أنَّ الزَّمنين الآخرين المنكَّل بهما، المقطَّعَين بِحَزازِ ساعاتٍ مسترخيةٍ في عزلةٍ من الأبديَّةِ والأفولِ على حدٍّ سَواء، ليسا إلا الزَّمنَ الوضعيَّ اليقينيَّ، الموصَدَ بين قبلٍ وبعد، والزَّمنَ الشِّعريَّ الغيبيَّ، المفتوحَ بين أزلٍ وأبد؛ فالزَّمنُ القيُّومُ على النَّصِّ لا تستقيم قيُّوميَّتُه إلا بجرشِ ذينك الزَّمنين في بعضهما، عَجناً لهما مِن ثَمَّ في نَتْنِ العَصر. هكذا، يبدو الزَّمن عند مونتالِه تجسيداً لرعبِ اللحظةِ الحاضرة، اللحظةِ المتورِّمة بذاكرةٍ مُدَلَّاةٍ، كسيفِ ديموقليس، على رأس الواقع، فيما الواقعُ إيَّاه يتوسَّلُ الرَّمزَ مِرفعَاً له مِن طينِ نفسِه. 


*   *   *

     (نصٌّ مخلبٌ يهرِّئُ)

     (نصٌّ نصلٌ يَقْشُرُ) 

لكن، ما المغاليقُ المنهَّشة، وما المغاليق المتِمَّةُ - في النَّصِّ المونتاليِّ - ثمرةَ الرؤيا؟ ذلك مأزقٌ آخر يقتضي من القارئ قفزةَ اجتناء؛ لأنَّه كما في جدليَّة الزَّمن، كذلك في جدليَّةِ الاستغلاق الشِّعريِّ، يفتح الشَّاعرُ هُوَّاتٍ أكيدة بين الحضورات ووعيها، يبتئرُ الحضوراتِ بفأسِ الغيب، مُفلِتاً الصُّورَ تتوهَّسُ الغيابات. بهذا المعنى، يتشكَّلُ المؤدَّى النِّهائيُّ للنَّصِّ أوَّلاً مِن دَهْمِ إبهاماتٍ بعينِها،- الإبهاماتِ الهِيْمِ المنفصلة المرتَجَة، ببعدِها البرناسيِّ المصْمَتِ على نفسِه-، والتَّفجيرِ فيها؛ وثانياً مِن تدسيمِ إبهاماتٍ رؤيويَّةٍ، وإيثاقها بالواقع المرمَّز، ببعدِها الإلاحيِّ المفتوح على الممكِن الإنسانيِّ. إنَّه فضاءٌ شعريٌّ مغاليقه إيماءٌ إلى مفاتيحه، لا طمسٌ لها؛ فضاءُ ابتناءٍ على التَّخريب، ورقشٍ على التَّمْحية، ووصْلٍ على المصارَمة. وفي هذا الفضاء ليس همُّ الشَّاعر إعلاءَ المستغلَقِ وتوطيدَه، بل حملَه كما هو وتقريبَه ومناجاته. وإذا كان كلُّ شاعرٍ سارقَ نارٍ، أمكنَ القولُ إنَّ نارَ مونتالِه هي هذا الزَّيغ الازدواجيُّ: زَيغُ التَّعمية نحوَ برَّانيَّةٍ حسِّيَّة، وزَيغُ الحسِّيِّ نحوَ إبطانٍ اذِّكاري. 


*   *   *

تلك مُحاجَّةٌ تخاشِنُ النَّصَّ في أناه. تَبْهَتُ الأنا في السُّؤالِ عن أناها؛ تَخبُلُها بالمرايا. المرآة انتقامُ الآخَر من نَرجِسَةِ الشِّعر؛ تَشَفِّي المنقصةِ من المثال. كلُّ مرآةٍ أمام نصٍّ هي، قطعاً، فِعلُ خلخلةٍ وهتكٍ، افتضاحٌ للآخرِ في الأنا، وللأنا في الآخَر. التَّفتُّحُ أو التَّشظِّي نُهْيَة ذلك؛ فإمَّا المرآة وإمَّا النَّصُّ. هنا، ثمَّة تراجعٌ في الشِّمراخِ الأنَويِّ، أو تقلقلٌ له في تربةِ اللانهائيِّ: باكْتِناتٍ خجول. العثكالُ الهائلُ، عثكالُ الأنا الشِّعريَّة، أنا الفتوحاتِ والنِّهاياتِ، العزلاتِ والمجابهات، يوهمنا أنَّه متمَّمُ العُقر حيالَ مادَّةِ إخصابِ الكونيِّ الذي تزعمه الأنا بَعلاً أبديَّاً لها، ولكن ما يفعلُه بحقٍّ هو أنَّه يطرحُ، إفاضةً، بُسُرَ الكلِّيَّات عِبرَ أسديةِ المجزوءات، استيلاداً بعدئذٍ للجوهريِّ من الزَّائل، والثَّابتِ من الآنيِّ، وتثبيتاً للمولِّدات والمتولِّدات في بعضهما. لكأنَّ الأقنومَ المتعبِّدَ لذاتِه، أقنومَ الأنا، لا يكتملُ إلَّا بلُحمتِه بالآخَر وانصهارِه فيه وانتصارِه له. الأنا المُحيقةُ بالآخر وبالكون هي، في هذا الشِّعر، مَحِيقةٌ بهما، ولا تتنفَّسُ إلا برئاتِهما. رئاتٌ كلماتٌ تتدبَّرُ انصبابَها، دون زلَلٍ، في هذا الزَّيغ، واستدادَها في هذا الالتواء. 


*   *   *

(نصٌّ مخلبٌ) يهرِّئ المطلَق؛ 

(نصٌّ نصلٌ) يقشرُ الأبديَّةَ عن حجرِ اللحظة؛ 

يجتعفُ عروقَه مثلَ حجَّارٍ، 

ثمَّ، مثلَ مثَّالٍ ينحتُه. 



النُّصوص:


أيُّها الهُدهُد، يا طائر الغبطةِ المُتَّهَم


أيُّها الهُدهُد، يا طائر الغبطة الذي تقوَّلَ عليه 

الشُّعراء، يا مَن تدوِّرُ عُرفَكَ 

فوق العمود الهوائيِّ لقنِّ الدَّجاج، 

وكمثلِ ديكٍ اصطناعيٍّ تدورُ مع الرِّياح؛ 

رسولٌ ربيعيٌّ أنتَ، يا هُدهُد، كأنَّما 

الزَّمن يتجمَّدُ عبرَك، 

وشباطُ لا يموتُ [بحضورِك]، 

كأنَّ كلَّ شيءٍ في الخارجِ يتحرَّكُ 

وفقاً لحركةِ رأسِك، 

أيُّها المجنَّحُ الغريب، وأنتَ تتجاهلُه. 



الشُّرفة


مُعابثةً بسيطةً بدا لي 

تحوُّلُ الفضاءِ المفتوحِ [كلِّيَّاً] عليَّ 

إلى عدم، ونارِكِ الأكيدة 

إلى ضجرٍ غامضٍ مُزعزَع. 


بذلك الخواء وحَّدْتُ الآنَ 

كلَّ رغبةٍ مِن رغباتي البطيئة؛ 

فوقَ العدمِ الشَّاقِّ ينبثق 

قلقُ البقاءِ حيَّاً في انتظارِك. 


حياةٌ تهَبُ وميضاً 

هي وحدُها الحياة التي تُبصِرين. 

نحوَها تخرُجين  

مِن هذه النَّافذة التي لا تضيء.  



مجدُ ظهيرةٍ مسترخية


فلتتمجَّد هذه الظَّهيرة المسترخية 

حين الأشجارُ لا تصنعُ ظلَّاً، 

وهيئاتٌ صُفْرُ مُحمرَّة تتكشَّفُ حولي 

أكثر فأكثر، عبرَ ضياءٍ مُفرِطٍ. 


الشَّمسُ، عالياً-، ومجرىً نَشِفٌ. 

نهاري لم ينقضِ بعد: 

السَّاعة الأبهى تقبعُ خلف الجدار 

الموصَدِ على أفولٍ مُمتقِع. 


القيظُ في الأنحاء؛ طائرُ رفرافٍ 

يحومُ فوق رُفاتِ حياةٍ. 

فيما وراءَ الكَرْبِ ثمَّةَ المطر، 

لكنَّ فرحاً أكثر اكتمالاً يترصَّد. 


أرسِنْيو1


هي ذي زوبعاتٌ يرفعْنَ الغبارَ،  

في دُوَّاماتٍ، على الأسقُف، والمفازاتِ 

المقفِرة، حيث الجيادُ المقلْنَسَة 

تتشمَّمُ الأرضَ، واقفةً حيالَ البلَّورِ، 

بلَّورِ الخاناتِ الثُّلاجيِّ البرَّاق؛ 

فيما تتحدَّرُ أنتَ على الدَّربِ، مواجهاً البحرَ، 

في هذا النَّهارِ المنذِرِ

بالمطرِ حيناً والمتَّقدِ2 حيناً، كترديدِ نواقيرٍ 

يريدُ تشويشَ العقدةِ الملتحمةِ 

لساعاتٍ 

كلُّ واحدةٍ منها طِباقُ الأخرى. 


ها إلماعةٌ مِن لَدُنْ مدارٍ آخر: اتبعها. 

اهبطْ نحوَ الأفق المعتلَى 

مِن قِبلِ شاهقةِ ماءٍ3 رصاصيَّةٍ عاليةٍ على اللُّجَج 

وأعتى منها تدويماً: هالةٌ أجاجٌ ملَولَبةٌ، 

ينفخها العنصرُ الثَّائرُ4 

نحوَ السَّحاب؛ دع عبورَكَ 

يخشخش الحصباءَ مِن تحته وتعثَّرْ 

بتشبُّكِ الطَّحالب: علَّ تلك البرهة، 

المشتهاةِ مِن زمنٍ بعيدٍ، تُنجِّيكَ 

مِن اختتامِ طَوافِك، مِن حلقاتِ هذي 

السِّلسلة، مِن ترحُّلٍ بلا حراكٍ، 

آهِ أرْسِنيو، يا هذيان الثُّبوت 

الجليَّ تمامَ الجلاء... 


أصغِ بين النَّخل إلى رشقاتِ الكمنجاتِ 

الرَّاعشة، يخمدُها تدحرُجُ الرَّعدِ 

مختلجاً كمثل صفيحٍ معدنيٍّ طُرِقَ 

للتَّوِّ؛ عذبةٌ هي الأنواءُ عندما ينبلجُ 

نجمُ الشَّعرى اليمانيَّة ببياضِه 

في أفقٍ أزرق، فيبدو بعيدَ المنال إذَّاكَ

المساءُ الموشِكُ: مساءٌ إذا ما شقَّقَه البرقُ 

تفرَّعَ مثلَ شجرةٍ جليلة 

في قلب ضياءٍ ينقلبُ الآنَ ورديَّاً: الدَّفُّ 

الغجريُّ قرْعٌ أبكمُ.


انزل سُدَفَ الظَّلام الذي يهوي 

ويُحيلُ الظَّهيرةَ ليلاً طافحاً 

بأجرامٍ وقَّادةٍ تتهزهزُ على الشَّاطئ،- 

وفي البعيد، حيث ظلٌّ مفرَدٌ 

يشغَلُ البحرَ والسَّماء معاً، تنبضُ مِن مراكب مبعثرة 

سُرُجُ الأسِتيلين5- إلى أن تتقطَّرَ السَّماءُ 

مرتعدةً، وينفثَ التُّرابُ الذي يرتوي أبخرتَه، 

بَينا كلُّ ما حولِك يُختَضُّ فيك، والمظلَّاتُ الرَّخوةُ 

تخبطُ خبطَ عشواء، وحفيفٌ هائلٌ 

يسوِّي الأرضَ، والمشكاواتُ الورقُ في الأسفل 

تترهَّلُ، مزمهرةً، على الطُّرقات. 


هكذا، تائهاً وسطَ الأماليدِ 

والحُصُرِ المتهاوية، أيُّها الأسَلُ المجرجِرُ معه 

جذورَه الدَّبقة، المحالُ انتزاعُها، 

ترجفُ إزاءَ الحياة وتندفعُ صوبَ 

فراغٍ يتصادى بنُوَاحاتٍ 

مخنوقة، يبتلعُك ثانيةً امتدادُ 

موجة الماضي الذي يطويك؛ ومرَّةً أخرى 

كلُّ ما يتملَّكُك، الطَّريقُ، سُدَّةُ الباب، 

الأسوارُ، المرايا، يغرزُكَ من جديدٍ 

في الزُّمرةِ المجمَّدة، زُمرةِ الموتى،

فإذا ما مسَّتكَ حركةٌ ما، أو وقعت بقربكَ 

كلمةٌ، فتلك، يا أرسِنيو، 

في السَّاعةِ التي تنحلُّ، إيماءةُ حياةٍ مخنوقةٍ 

تنهضُ فيكَ، وعمَّا قليلٍ 

تبدِّدُها الرِّيحُ مع رمادِ الكواكب.


التَّاريخ 


التَّاريخُ لا يُفَكُّ 

كما تُفَكُّ سلسلةٌ

موثَقةُ الحلقات. 

في كلِّ حالٍ 

ثمَّة حلقاتٌ لا تُستَوثَق. 

التَّاريخُ لا يتضمَّنُ 

الماقبل والمابعد، 

ولا شيء فيه يتشكَّى 

على نارٍ خافتة. 

التَّاريخ لا يصنعُه 

مَن يفكِّر فيه ولا مَن 

يتجاهلُه. التَّاريخ 

لا يفتح طريقاً، بل يعانِد، 

وينفُرُ قليلاً قليلاً، لا يتقدَّمُ 

ولا يرتدُّ، يصيرُ سكَّةً 

وجهتُها ليست 

في جدولِ المواقيت. 

التَّاريخ لا يبرِّرُ 

ولا يُعزِّرُ، 

التَّاريخ ليس ذاتيَّاً 

لأنَّه [أصلاً] خارج الأشياء. 

التَّاريخ لا يمنحُ ملاطفاتٍ ولا ضرباتِ مِقرَعة. 

وليس التَّاريخ الملقِّنَ 

لأيِّ شيءٍ يتَّصلُ بنا. فَهمُ التَّاريخ لا ينفعُ 

في جعله أكثر صدقاً وأكثر عدلاً. 

التَّاريخ، مِن ثَمَّ، ليس 

المحراثَ المخرِّبَ كما يزعمون. 

إنَّه يترك وراءَه أنفاقاً ومغاورَ وحُفَرَاً 

وكمائن؛ فيها منجىً لحياةٍ ما. 

التَّاريخ رقيق الحاشيةِ كذلك: لا يدمِّرُ  

إلا بقدرِ ما يستطيع: لو أنَّه غالى، 

لكانَ أفضل، ولكنَّ التَّاريخ تُعوِزُه الأنباء، 

وهو لا يُكملُ انتقاماتِه أبداً. 

التَّاريخ يحُكُّ القاع 

كشبكةِ صيدٍ مهترئة، 

تتملَّصُ منها سمكةٌ أو أكثر. 

أحياناً يلامسُ الغشاءَ البلازميِّ 

لإحدى النَّاجيات فلا تبدو مغتبطةً بذلك. 

تجهلُ أنَّها صارت خارجاً، الكلُّ يجهل. 

الأخريات، داخلَ الجِراب، يحسبن 

أنَّهنَّ أكثر حرِّيَّةً منها. 



الليمون 


أصغِ إليَّ، الشُّعراءُ المتوَّجون بالغار 

يتنقَّلون فقط بين النَّباتات ذاتِ الأسماء 

النَّادرةِ التَّداول: بَقسٌ لِيغُستُرُومٌ أو أقَنْتة. 

أمَّا أنا فأحبُّ الشَّوارع التي تشبه وِهاداً 

مُعشَوشِبة حيث يقبضُ الصِّبية، 

في مستنقعاتٍ نصف مجفَّفة، على 

سمكةِ أنقليسٍ هزيلة: 

الزُّنَيقاتُ التي تقفو حوافَّ المنحدَر، 

تتحدَّرُ وسطَ لِمامِ القصب 

وتحطُّ في الحقول، بين أشجار الليمون. 


ليتَ ضوضاءَاتِ الطُّيور 

تنطفئ مبلوعةً بالزُّرقة: 

لَكانَ همسُ الغصونِ الرَّفيقة 

أشدَّ اتِّضاحاً في هواءٍ بالكادِ يتحرَّك، 

وكذا قوَّةُ هذا العبق 

الذي لا يحسنُ الانسلاخَ عن الأرض، 

ولَأمطرتْ في الصُّدور عذوبةً قلِقة. 

هنا حيثُ تنشرحُ الشَّهوات 

تخرَسُ الحربُ، كما لو بفعلِ مُعجزة، 

هنا، نحن الفقراء أيضاً لنا نصيبنا من الثَّراء، 

لنا عبقُ الليمون. 


انظرْ، في هذه السُّكونات- التي فيها 

تذعِنُ الأشياء وتبدو قريبةً 

مِن نقضِ سرِّها الأخير، 

نرتقبُ آنذاك 

أن نكشفَ خطأ الطَّبيعة، 

مُنتهى الكون، الحلقةَ التي لا تمتسِك، 

خيطَ الخلاصِ الذي يضعنا أخيراً 

في صُلبِ الحقيقةِ، 

ها العينُ تنقِّبُ في الأنحاء، 

ها العقلُ يتحرَّى يوائمُ ويفرِّقُ 

في العطرِ الذي يتفشَّى 

كلَّما خفتَ النَّهارُ أكثر. 

إنَّها السُّكوناتُ التي عندَها 

تُرى في كلِّ ظلٍّ بشريٍّ يُنائي 

ألوهةٌ متكدِّرة. 


ولكنَّ الوهمَ مُخِلٌّ [بمواثيقه]، والزَّمنُ يحملُنا 

نحوَ مدنٍ صاخِبةٍ حيث الزُّرقةُ لا تَبِينُ 

إلا مُشظَّاةً، عالياً، بين التِّيجان الحجريَّة. 

المطرُ يرهقُ الأرضَ، فوقَ ذلك؛ 

والضَّجرُ الشِّتائيُّ يتكاثفُ فوق البيوت، 

الضَّوء يشِحُّ- والنَّفْسُ تكْمَدُ. 

كذا الأمرُ، عندما ذاتَ نهارٍ، عبرَ بابٍ مواربٍ 

بين أشجار أحدِ الأفنية 

تتجلَّى لنا صُفراتُ الليمون؛ 

فينحلُّ جليدُ القلب، 

وفي الصَّدرِ تُمطِرُنا 

بأغانيها- دَفقاً

أبواقُ العزلةِ الذَّهبيَّة. 


قصيدة حُبٍّ 


متأبِّطاً ذراعكِ، هبطتُ على الأقلِّ ملايين الأدراج، 

ولكنَّ غيابكِ الآنَ يُعلِن الخواءَ دَرْجةً دَرجة. 

كذلك، أيضاً، قصيرةً كانت رحلتُنا الطَّويلة. 

رحلتي أنا لم تنتهِ بعد، ولم يعدْ لزاماً عليَّ 

ضبطُ المواقيت، ولا الحجزُ المُسَبَّق، 

لا التَّحايلُ، ولا احتمال مذلَّةٍ ممَّن يحسبُ 

أنَّ لا حقيقة إلا ما يُرى. 


هبطتُ ملايين الأدراج متأبِّطاً ذراعكِ، 

ليس لأنَّ المرء بأربع عيونٍ قادرٌ على الرُّؤية أكثر. 

معكِ هبطتُها لأنَّني كنتُ أعلمُ أنَّ

بؤبؤيكِ أنتِ هما وحدهما الحقيقيَّان لي ولكِ، 

مهما يكن إعتامُهما. 


حياتي 


ها حياتي، لست أطالبُكِ بخطوطٍ  

محدَّدة، ولا بوجوهٍ مُقنِعة، ولا بأملاك. 

في دورانكِ المضطرب سيَّان الآنَ 

مذاقُ العسلِ والإسفنط6


القلبُ الذي كلُّ حركةٍ منه تعويلٌ 

على ما قلَّ أو حقُرَ مزعزَعٌ الآنَ بالرَّجفات. 

على المنوالِ نفسِه تصدحُ بين حينٍ وآخَر  

في صمتِ الحقول طلقةُ بندقيَّة. 



الزَّوبعة 


الزَّوبعة التي تتصبَّب على أوراق الماغنوليا 

القاسية، الرُّعود الآذاريَّةُ المديدة، 

وحبَّاتُ البَرَدِ الدَّافقة، 

(الأصوات الكريستاليَّة التي تباغتُ

عشَّكِ الليليَّ، أصواتٌ ذهبيَّة 

تخمدُ على خشب الماهوغوني، على الكتبِ 

المعاد تجليدُها، فيما يضطرمُ 

مكعَّبُ سكَّرٍ في قوقعةِ جفنيكِ) 

البرقُ الذي يبيِّضُ 

الشَّجَرَ والأسوارَ ويصعقها في أبديَّةِ 

هذه اللحظة  – مرمرٌ تِبنٌ 

وخرائب- الرَّقشُ الذي تحملينه داخلَكِ

بالإكراه، أنتِ التي تتوحَّدين بي 

أقوى من الحبِّ نفسِه، أيَّتها الأختُ الغريبة-، 

وبعدُ، كمَدٌ طاغٍ، سِيسْتْرُوماتٌ7، ارتعادُ 

الدُّفوفِ عندَ المرْمَسِ السَّارقِ، 

وطءُ رقصة الفوندانغو، وفي الأعلى 

حركةٌ ما تومئ... 

على مثالِكِ أنتِ عندما 

التفتِّ إليَّ، وبيدٍ- جبينُكِ آنذاك 

مجلوٌّ مِن غمامةِ الشَّعر- 

لوَّحتِ لي، لِتَلِجي في العتمة. 



عندَ البحر (أو تقريباً)8


الجُدْجُدُ الأخيرُ يصطرِخُ 

على الشَّكير الأصفرِ للأوكاليبتوس 

الأطفالُ يجمعون بذور الصَّنوبر 

التي لا بدَّ منها لطبق الجالانتين9 

كلبٌ حارسٌ ينبحُ مِن وراءِ مُشَرِّبيَّةِ دارةٍ 

خاويةٍ على عروشِها 

الدَّاراتُ شيَّدَها الآباءُ مِن قبلُ 

وأبناءُ اليومِ نبذوها 

ثمَّة ههنا متَّسَعٌ لمائة ألفِ منكوبٍ بالزَّلازل 

حتَّى أنَّ الشَّاطئ لا يُرى مِن هنا 

إذا جازَ أن تُسَمَّى كذلك تلك الثَّمانون بالمِائة 

المُعطاة لخفرِ السَّواحل 

حيث مِن فَرْطِ الأمورِ التَّطلُّعُ 

إلى سلامٍ ذهبيٍّ هناك 

البحرُ من جهةٍ أخرى قد كَمُلَ اجتياحُه 

فيما النُّفاياتُ تشكِّلُ معاً 

رُبْواتٍ مُتماوجةٍ من اللدائن 

الحظائرُ مُخلاةٌ عن آخِرِها 

سوى مِن سُلالاتِ الصَّدأ العذبة 

وطيورِ الصَّعْوِ أو الرُّيَيْتِيَّة10 

كما يطيبُ للشُّعراء تسميتُها. ثمَّة أيضاً بِضعةُ

براعمِ ماغنوليا وبطاقةُ طبيبِ أطفال 

لكنَّ الأطفال هنا يحلِّقون بدرَّاجاتهم الهوائيَّة 

ولا حاجة بهم إلى رعايتِه 

مَن يودُّ أن يتنشَّقَ بموجة نَتْنٍ مفاجئة 

شِعرَ هذا العصرِ المزعزَع 

يمكنه المرور من هنا بلا عجَلٍ 

إنَّما الطَّعنةُ الضَّعيفة هي ما يصنعُ الخوفَ 

لا الزَّوالُ أو نفثاتُ العدمِ العذبة 

فامكثوا هنا إن أحببتم ذلك حُبَّاً وإلَّم يكنْ جمَّاً 

ذلك أنَّ الخِيارَ الأفضل شبيهٌ جدَّاً 

بالموت (وهذا لا يحبُّه إلا الحِدْثان11). 


وجعُ الحياة


لطالما رأيتُ وجعَ الحياةِ قُبُلاً: 

[رأيتُه] في الجدولِ المخنوقِ الذي يقرقر، 

في تجعُّدِ الورقةِ إذ يبَّسَها 

العطش، في الحصانِ المطروحِ أرضاً. 


لم أعرف منجىً آخَرَ خارجَ المعجزةِ 

التي تُفَتِّحُ الحيادَ الإلهيَّ12

إنَّه13 النُّصبُ المرفوعُ في وسنِ 

الظَّهيرة، إنَّه الغيمةُ، والبازُ المحلِّقُ عالياً. 


الحواشي (كما وضعها المترجِم):

1. اسم علم مذكَّر إيطالي، والشَّخصيَّة تمثِّل الشَّاعر نفسَه في النَّص.

2. يقصد من فعلِ البرق.

3. الشَّاهقة المائية عبارة عن ظاهرة جوِّيَّة على شكل دوَّامة شديدة من الهواء وقطرات الماء، تتشكَّل تحت غيمةٍ ركاميَّةٍ فوق البحار، حيث يُسحَب الماء عالياً.

4. يقصد البحر.

5. غازٌ عديم اللون يستعمَل في الإنارة وغير ذلك.

6. الإسفنط نباتٌ ورقه كورق الزَّعتر، كانت تطيَّب به الخمور ثمَّ أطلِق على الخمر نفسِه.

7. السِّيستروم آلة موسيقيَّة معدنيَّة يعود أصلها إلى مصر القديمة.

8. القصيدة في الأصل مجرَّدة من علامات التَّرقيم.

9. طبق بارد من اللحم والهلام.

10. نسبةً إلى مدينة رْييتي الإيطاليَّة.

11. جمع حدَث، أي شابٌّ.

12. يقصد بالحياد الإلهي هنا الطمأنينة الكاملة التي يتحرَّر عندها الإنسان من مشاعر الفرح والحزن على حدٍّ سواء، ما يجعله شبيهاً بالآلهة. 

13. الإشارة هنا إلى المنجى.